
تأثير اضطراب الشخصية الحدية على جودة الحياة والوظائف اليومية
اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder - BPD) هو اضطراب نفسي معقد ينتمي إلى مجموعة اضطرابات الشخصية، ويتميز بعدم استقرار واضح في المشاعر، والسلوك، والعلاقات، والصورة الذاتية. وعلى الرغم من أن هذا الاضطراب قد يبدو غامضًا أو غير مرئي في بعض الأحيان، إلا أن تأثيره العميق على جودة حياة المصاب ووظائفه اليومية لا يمكن إنكاره.
اضطراب المشاعر وتأثيره على الحياة اليومية
من السمات الأساسية لاضطراب الشخصية الحدية وجود تقلبات مزاجية شديدة وسريعة، قد تنتقل بالمصاب من الحماس إلى الاكتئاب، أو من الحب العميق إلى الغضب العارم خلال وقت قصير. هذه التقلبات تؤثر على قدرة الشخص على الاستمتاع بالحياة، وتُضعف من شعوره بالاستقرار النفسي والرضا العام. كما يُعاني كثير من المصابين من شعور دائم بالفراغ، وانعدام المعنى، مما يجعلهم عرضة لليأس أو سلوكيات اندفاعية لتعبئة هذا الفراغ، مثل الإفراط في الأكل أو الإنفاق أو حتى إيذاء النفس.
العلاقات الاجتماعية تحت التهديد
العلاقات الشخصية تعدّ أحد أكبر التحديات لدى مرضى اضطراب الشخصية الحدية. فالمصاب غالبًا ما يواجه صعوبة في الحفاظ على علاقات مستقرة، حيث يتأرجح بين التعلق الشديد بشخص ما، ثم فجأة يشعر بالخذلان أو الغضب نحوه. هذا النمط من العلاقات، الذي يُعرف بـ"التمثيل المثالي والتقليل"، يتسبب في فقدان الثقة، والعزلة، والشعور بالرفض، مما يُعمّق من معاناة المصاب. الخوف العميق من الهجر – حتى لو لم يكن مبررًا – يجعل الشخص يتصرف بطرق قد تبدو غريبة أو متطرفة لتجنب فقدان الطرف الآخر، مما يؤدي في النهاية إلى المزيد من الخسائر الاجتماعية.
تأثير BPD على العمل والوظائف اليومية
لا يقف تأثير اضطراب الشخصية الحدية عند حدود المشاعر والعلاقات فقط، بل يمتد إلى الأداء المهني والوظيفي. حيث يجد المصابون صعوبة في الحفاظ على وظيفة مستقرة بسبب صعوبة التركيز، وعدم القدرة على التعامل مع الضغط، وسرعة الانفعال. كما أن التفاعل مع الزملاء قد يتأثر بتقلبات المزاج أو سوء تفسير النوايا، مما يؤدي إلى صراعات في بيئة العمل. حتى المهام اليومية العادية، مثل تنظيم الوقت أو اتخاذ قرارات بسيطة، قد تتحول إلى عبء نفسي كبير يضعف من الشعور بالإنجاز والكفاءة الذاتية.
الصحة الجسدية وجودة الحياة.
الإجهاد المزمن الناتج عن اضطراب المشاعر المستمر، واضطرابات النوم أو الأكل، ينعكس مباشرة على الصحة الجسدية. في بعض الحالات، قد يلجأ المصابون إلى سلوكيات خطرة مثل تعاطي المخدرات أو إيذاء النفس كوسيلة للتعبير عن الألم النفسي أو التخفيف منه، مما يعرضهم لمخاطر صحية حقيقية. كذلك، فإن انخفاض تقدير الذات واضطراب الهوية قد يؤدي إلى إهمال الرعاية الصحية أو العزوف عن طلب المساعدة.
هل يمكن التعايش مع اضطراب الشخصية الحدية؟
رغم صعوبة الأعراض، فإن اضطراب الشخصية الحدية ليس نهاية الطريق. أظهرت الأبحاث الحديثة أن العلاج النفسي، وعلى رأسه العلاج الجدلي السلوكي (DBT)، يمكن أن يُحدث تحسنًا كبيرًا في مهارات تنظيم الانفعالات، وبناء علاقات صحية، وزيادة الاستقرار العام في الحياة. بالإضافة إلى ذلك، تُساهم برامج الدعم الأسري والعلاج الجماعي في تحسين جودة الحياة وزيادة التكيف النفسي والاجتماعي.
نحو فهم أعمق ورؤية أكثر إنسانية
اضطراب الشخصية الحدية يمثل معاناة حقيقية يعيشها الفرد بصمت، لكنه في الوقت ذاته قابل للعلاج والتجاوز مع التوجيه المناسب والدعم المستمر. تحسين جودة حياة المصابين يبدأ بالفهم، ونشر الوعي، وتفكيك وصمة المرض النفسي. كل إنسان يعاني من هذا الاضطراب يحمل بداخله رغبة في الاستقرار والحب والقبول، ويستحق أن يُنظر إليه بعين الرحمة، لا بعين الاتهام أو التهميش